لمدة طويلة اعتُبرت الاضطرابات النفسية أمرا يتعلق بالأرواح الشريرة و عالم الجن و غيره. والعلاجات اقتصرت تقريبا على طرق لا جدوى منها أو عنيفة أحيانا. استمرت أغلب الحضارات و المجتمعات القديمة في معاملة المصابين بها كأشخاص يجب نبذهم أو حتى قتلهم أو سجنهم. لكن الكثير من المفكرين كسقراط و ابن سينا و بعض الأطباء و العلماء ممن افتقدوا الأدوات التشخيصية المتطورة قاموا بوصف عدة اعتلالات نفسية كالاكتئاب و السوداوية و اضطراب الوسواس القهري، و هذا الأخير سيكون موضوع هذا المقال.
ما هو الوسواس القهري؟
تراود بعض الأشخاص في المجتمع أفكار متكررة و قاهرة، أحيانا تستمر أو تأتي بطريقة متقطعة. تلك الأفكار الدخيلة تدفعهم إما لتكرار فعل ما بطريقة هوسية أو تدفعهم للمقاومة ما يولد حالة من عدم الارتياح الذي لا بد أن يتخلص منه عبر الفعل.
تقريبا هذا هو التعريف لاضطراب الوسواس القهري إذا تجنبنا تفاصيل الدليل التشخيصي الإحصائي MSD و الذي يعتبر أحد مراجع الطب النفسي.
أعراض الوسواس القهري:
تختلف الأعراض و درجة الاضطراب، تماما كاختلاف أسباب الرهاب أو الفوبيا التي يمكننا تقريب الوسواس القهري لها. فمثلا يمكن أن يعاني من لديه فوبيا من خوف من الحشرات أو الديكة أو الارتفاعات، و لكل هذه المخاوف أسماء في المعجم الطبي.
اسم الاضطراب كاف لتحديد الأعراض الرئيسية المتمثلة في الهوس ( الوسواس ) و القهر ( الإكراه ).
قد يشتكي المريض من الكثير من الأعراض و التي يمكن ذكرها كالآتي:
الهوس:
و هو الفكرة أو الوسواس المتمثل في النمط الدخيل من التفكير الذي لا يمكن مقاومة تردده و تكراره في بال الشخص.
تلك الخيالات و الاندفاعات أو الصور – أكانت ذات طبيعة جنسية أو عنيفة – غير مرغوب بها، و يدرك المريض أنها دخيلة و تسبب له حالة من التوتر الشديد و العجز أو الضغط الشديد.
قد يتمثل الوسواس في أمور عديدة متعلقة بما يلي:
- النظافة و الجراثيم
- الأمن و السلامة
- التنظيم و الفوضى
- المرض و العلاجات
- الوجبات و الطعام
القهر ( الإكراه):
و تتمثل في التصرفات المبالغ فيها و المتكررة المدفوعة بالأفكار الوسواسية أو الهوسية.
الغاية من هذه التصرفات هو التقليل من وطأة التوتر و الضغط الملاحظ لدى المريض. التكرار قد يستمر لفترات متباينة و لا يتوقف إلا بعد أن يحس المصاب بالتعب أو التحسن.
بعض التصرفات القهرية قد تكون:
- غسل اليدين بطريقة مبالغ فيها.
- إغلاق الباب و فتحه مرات عديدة.
- العد أو الحساب وفق أنماط عديدة.
- ترتيب الأشياء أو الغرفة و الاستياء لأصغر مظهر من الفوضى.
- التحقق المتكرر من إطفاء الغاز أو غلق الأبواب.
لا يجب الخلط بين التصرفات العادية كغسل اليدين من أجل تجنب الوسخ أو التحقق من إطفاء المواقد تجنبا للحريق، و بين التصرفات القهرية.
ما يمكن ملاحظته مما سبق أن الوسواس القهري يمكن أن يترجم إلى تصرفات ملاحظة و أخرى عكس ذلك كالعد و الحساب أو التفكير القهري في خيالات جنسية أو عنيفة.
كون الاضطراب تشخيص مستقل بحد ذاته هذا لا ينفي اقترانه باضطرابات نفسية أخرى مثل:
- الاكتئاب أو الاضطراب ثنائي القطب.
- اضطراب القلق.
- اضطرابات الشخصية الهوسية القهرية أو الانعزالية.
- الأفكار الانتحارية.
التشخيص:
تشخيص الوسواس القهري يكون سريريا اعتماداً على المحادثة التي تجري بين الطبيب و المريض أو عبر ملاحظة تصرفاته إذا أتيحت الفرصة لهذا.
و يعتمد التشخيص على وجود إحدى العرضين الرئيسيين أو كليهما و المتمثلين في القهر و الهوس. يجب أن يلاحظ إحدى العرضين لمدة معينة، مثلا لمدة تتجاوز الساعة في اليوم.
إضافة إلى هذا قد يقدر الطبيب المعاين درجة تأثير الاضطراب على حياة الفرد المهنية أو الاجتماعية.
تبقى المراجع الطبية لتشخيص الوسواس القهري دائمة التحديث.
أسباب الوسواس القهري:
لا نار بلا دخان، وكذلك الأمر مع الاضطرابات النفسية سواء العصاب (القلق العام، اضطراب الهلع، الوسواس القهري..) أو الذهان (الفصام، الاضطراب التوهمي..).
يساعد فهم الأسباب و التغييرات التي يحدثها أي مرض على تطوير العلاجات المناسبة، أكانت عرضية أو شفائية، فالغاية هي فائدة المصاب.
قد تكون الدراسات الحديثة ما زالت في طور التحسين لفهم العقل البشري، لكن فيما يتعلق بالاضطرابات العقلية المنشأ تقف فرضية العوامل المتعددة أو العوامل الأخرى الغير مكتشفة سيدة لهذا الموقف.
العامل الوراثي:
يبقى البحث عن المورثات المحتملة و المتسببة في مثل هذه الاضطرابات قائما إلى اليوم، بالتوازي مع الأبحاث القائمة لإيجاد مورثات الاكتئاب أو مختلف الذهانات.
العامل العضوي:
التغير في كيمياء الجسم و الدماغ قد يكون سببا في اضطراب الوسواس القهري، فمن خلال التحاليل الكيميائية و تغير النشاط العصبي لبعض مناطق الدماغ يملك العلماء نظرة و لو ضيقة عن هذا الاضطراب و التغييرات التي يحدثها داخل العضوية.
العامل الاجتماعي:
الفرد البشري ككائن اجتماعي يؤثر و يتأثر بما يستقبل من محيطه من أفكار و عادات و تصرفات، و الإحصائيات تدعم تأثير هذا العامل على نشوء عديد الاضطرابات.
علاج الوسواس القهري:
تختلف العلاجات الممكنة لاضطراب الوسواس القهري و تستمر تدريجيا في التحسن رغم الضغط المتزايد على الأفراد الذين يعانون منه بحكم محيطهم المتطلب للانتاجية او الحركة.
ثلاث ركائز علاجية أثبتت نجاعتها في علاج و تحسن نسبة من المصابين، و هي:
العلاج السلوكي المعرفي cognitive-bahavior-therapy:
يتضمن العلاج السلوكي المعرفي عدة سبل و طرائق لتخفيف الأعراض حيث أثبتت الدراسات نجاعته التي فاقت نجاعة العلاج الدوائي.
أحد الممارسات السلوكية المعرفية تتمثل في المواجهة و الوقاية من الاستجابة Exposure and response prevention و اختصارا ERP. يقوم بها ممارس طبي مطلع و ذو كفاءة مهنية تخوله انتهاج هذا العلاج.
العلاج الدوائي:
ثمانية أدوية تم دراستها بشكل جيد، حيث أثبتت نجاعتها في تحسين و علاج اضطراب الوسواس القهري، تتمثل في مضادات الاكتئاب التالية:
- سيرترالين zoloft
- باروكسيتين deroxat
- سيتالوبرام celexa
- ايسيتالوبرام escitalopram
- فليفوكزامين luvox
- فليوكسيتين prozac
- كلوميبرامين anafranil
- فينلافاكزين effexor
التعلم و الدعم العائلي:
إطلاع مريض الوسواس القهري على حالته عبر قراءة الكتب و المقالات المتعلقة بمرضه و الاستمرار بالبحث و محاولة الفهم قد يساعده بشكل جيد في التحسن.
دعم العائلة و تفهمهم للحالة النفسية للفرد يساهم في استرجاعه للثقة التي ربما تأثرت بحالته المرضية.
لا يقف علاج الوسواس القهري عند هذا الحد، فالدراسات القائمة حول علاجات كالتأمل اليقظ mindfull meditation و مثبطات مستقبلات البيثا betablockers و غيرها سيأتي بنتائج واعدة مستقبلا. دراسة حالات استثنائية لناس لا تعرف التوتر بسبب تشوهات خلقية في أدمغتهم ( غياب نشاط الأميغداليا ) و لناس لها قدرة على التحكم في مستويات توترها كهواة الرياضات الخطرة قد يبقي الأمل قائما لهذه الشريحة من المرضى. التصوير بالرنين المغناطيسي و إلقاء نظرة على عمل الدماغ و تغيراته المورفولوجية المصاحبة لشتى الاضطرابات أو حتى للأشخاص الأصحاء قد يوفر قاعدة بيانات تسمح بمقارنة و فهم أحسن لنشوء الاضطرابات أو التنبؤ بها.